دلع المفتي كاتبة كويتية

«إننا لا نلوم رجال الدين على إيمانهم الذي يتمسّكون به، ولكننا نلومهم
على التطفّل في البحث العلمي، وهم غير جديرين به».
(د. علي الوردي)
***
يتشدّق العرب بابن سينا، والكندي، والفارابي، وابن الهيثم، وابن النفيس،
والرازي، وابن حيان، باعتبارهم من رواد العلم والفكر الإنساني في
التاريخ، ناسين (أو متناسين) أن تلك الشخصيات وغيرها، تعرّضت في زمنها،
لشتى صنوف المضايقات والتهميش والعزل، واتهمت بالكفر والزندقة.

إن المعركة بين العقل العلمي «الاستكشافي» والعقل الكهنوتي «التسليمي»
قديمة قدم الأديان، وقد عانى منها المسيحيون والمسلمون وغيرهم، وفي حقبة
معينة انتصر العقل الكهنوتي «التسليمي» على العقل العلمي «الاستكشافي»،
ونامت الشعوب في سُبات مظلم، نائين بأنفسهم عن كل علم أو فكر حر، مسلّمين
زمام عقولهم لكهنتهم، الذين منّوا عليهم بصكوك الغفران ومفاتيح الجنة.

إن تاريخنا مملوء بقصص مفكرين وكتاب وعلماء حوربوا وهوجموا وأحرقت كتبهم
ونُفوا، وما ابن رشد، وأبو العلاء المعري، وابن سينا والفارابي والكندي،
إلا قليل من كثير كانوا في صراع دائم بين العقل الفقهي والعلم.

فالحرب شعواء ولم يجد أعداء الفكر والعلم ومحبو الظلام سلاحاً يحاربون به
الفكر الحر سوى إثارة مخاوف الناس من ضياع دينهم واستدرار عواطفهم بدعوى
حماية الدين (باسم الدين)، ومن ثم سل سيوف السلطة عليهم قتلاً وحرقاً
ونفياً ونبذاً. وبينما هُرّبت أبحاث وكتب مفكرينا إلى الغرب ليكون لها
الدور الريادي في نهضة أوروبا لتشكل نواة علمهم وفكرهم، قبعنا نحن نجترّ
مآسينا على يد بعض «وعّاظ السلاطين» الذين لم يحاربوا العلم والفكر إلا
خوفاً على مناصبهم وسلطتهم.

حسبنا أن الأمر قد انتهى مع تقدّم البشرية والانفتاح على العالم، إلا
أننا عدنا لنواجه الجهل والقمع نفسيهما بأشكال مختلفة، فمن تكفير كاتب
وتطليقه زوجته «غصبا»، إلى اغتيال آخر، إلى سجن مفكر، إلى شتم وتحقير
وقذف كاتبة على مواقع التواصل الاجتماعي، نجد أنفسنا ندور في دائرة الجهل
والعتمة نفسها، وفي مواجهة سلطة العقل الفقهي الأصولي في محاربته للفكر
الحر.

وفي واحدة من صور القمع الجديد، قام «ظلاميون» بتغطية وجه تمثال السيدة
أم كلثوم في بلدتها (المنصورة) بنقاب، وفي مكان آخر تم سرقة تمثال رأس
الكاتب طه حسين، عميد الأدب العربي، في محافظة المنيا. وفي سوريا قام
«أحدهم» بقطع رأس تمثال الفيلسوف والشاعر أبو العلاء المعري في بلدته
(معرة النعمان)، في رسالة رمزية واضحة لقطع رأس الحرية والفكر الحر ومن
يجرؤ عليه.

غضبنا وثرنا وانتقدنا هذه الفعلة الشنيعة، فخرج من اتهمنا بالاهتمام
بالحجر على البشر، ولهؤلاء نقول: إن تدمير ذاك الحجر ما هو إلا مقدمة
وتحضير لتدمير رؤوس البشر، خوفاً مما فيها. فمن قطع رأس المعري، لن
يتوانى في قطع رأس من يخالفه في الفكر أو في الدين أو في المذهب.
المسألة ليست مسألة رأس المعري أو طه حسين أو أم كلثوم فقط.. إنما هي
رؤوسنا كلنا ستُجرّ إلى المذبح.
d.moufti@gmail.com
دلع المفتي – كاتبة كويتية

Laisser un commentaire